"دخلت امرأة النار في قطة حبستها"
دخل شعب جهنم الدنيا في زعيم حبسه في أبد العرش
"دخل رجل الجنة في كلب سقاه"
خرجت أمة من التاريخ في كلمة حبستها، فلا نطقتها ولا همست بها لخشاش النفس!
كلبي الأول
ذكرني نص "حنان الكلب" الرشيق كلبي وأوطاني وهيّج حنيني وأشجاني، فتذكرت أول كلب صاحبته، تركت كلبي حرا من قيد الأسماء، كنت أصفر له فيحضر مبصبصا بذنبه، مطيعا أوامري القليلة، التي لا تتجاوز أمرين: قيام، جلوس. كما أوامري للتلاميذ في المدرسة. لاحظت عدة مرات عربا "وطنيين" يطلقون على كلابهم الحبيبة المدللة أسماء زعماء العدو: شارون، غولدا، ريغان، ثم يكرمون كلابهم غاية الإكرام! تلك، أيضا، هي صفة علاقتنا العاطفية مع أميركا: نسبها جهرا نهارا ونشتهي التقلب في رغد حريتها في كل الأوقات!
ترديت في سنتي الجامعية الثانية فعملت مدرسا لكل المواد وكل الصفوف، في قرية كردية تتكلم بلسان الفطام الأول، على تخوم مدينة الصهباء، شككت في أن تكون فرنسية ( بحكم مشاهدتي للأفلام الفرنسية؟) بسبب هدوئها، وجمالها وحجارتها "الصليبية" الضخمة التي كانت تستعمل في بناء القلاع والحصون، وأقمت في المدرسة الواقعة في أعلى التل، واستأنست بكلب، صار اسمه كلب المدرسة، فكل غريب للغريب نسيب. كنت أحضر له كل أسبوع عظاما ولحوما رخيصة، اشتريها بحرّ مالي وكدي وتعبي، وأغذيه في وجبات منظمة، ثم زاد حبي للقرية عندما طلبت مني إحدى الأمهات تدريس ابنتها الطويلة، الأطول من الطريق إلى تحرير القدس-والتي في وجهها الوضيء رشقات من سمسم القمر، ويذكر برغيف غنى طحينه أغنية الحليب على الحان نار التنور، وكاشفت أمها بعد اختبار سريع بحكم علمي وهو أن ابنتها تحتاج إلى كوكبة من المدرسين في جميع أنواع المواد أو زوج يقوم على منحها شهادة مختومة بكتيبة من الأولاد! فقالت بصراحة صافعة: اتعب عليها، وخذها بلا مهر.
والحقيقة أن الأم، التي تخشى الزمن، كانت تريد أن تهبها لي راسبة أو ناجحة، متعلمة أو أميّة، فشباب القرية كلهم هربوا إلى الشمال الأوروبي، وجاءت الفرصة للبغاث أمثالي كي يستنسروا في قريتهم، وبدا أن بنات القرية جميعا سيترهبن في محراب مغزل الصوف بانتظار أوليس السماء؛ ملك الموت. ستنسج كل واحدة منهن كنزة تستطيع بها تدفئة القطب الشمالي وإيهام جليده بأن "أيام الربيع قد حلت"! كانت باكيزا، أحسن أخواتها الثلاث لأنها كانت واسطة العقد، فالصغرى كانت تلميذة رسمية عندي في آخر المرحلة الابتدائية، وكانت الكبرى تحوك كنزة عجيبة، وتملأها بألغام الألوان، عسى أن تنفجر في قطار العمر. الأب الطويل كان منهمكا في القمار حتى خسر كل أرضه، والأخ القصير- ومع قصره كان أطول مني!- عاد إلى القرية بعد أن أنهى الخدمة العسكرية وحمل بارودة الصيد وبدأ في قتل كلاب القرية كلبا كلبا:
زارني في المدرسة للتعارف فباركت له التسريح من عقوبة الثلاث سنوات وسألته: سيد رفعت، هل استطيع أن اعرف سبب حقدك على الكلاب؟
قال حاكما حكمه النهائي غير القابل للطعن عن طريق النقض أو "إعادة الانتشار": كثروا؟
قلت: عموما هذا كلب المدرسة، وإياك أن تؤذيه؟ هذا الكلب أداة توضيح وشرح مدرسية.
فهزّ رأسه، مستغربا أن يكون لمدرس عابر كلبا، وحمل بارودته ومضى إلى "الجبهة" الخاطئة.
بعد الدرس الثالث في محاولتي استراق السمع من السماء من دون الخوف من حرسها والشهب، والسبب صراحة الأم. سبق أن قلت أن باكيزا، التي يمكن الاطلاع على مواصفاتها في دفتر الشروط الذي أصدره كعب بن زهير في لامية "بانت سعاد". كانت ( طويييييييييلة) إلى درجة أنها كانت تخجل من طولها الذي يتعثر بخفرها وهي تقف أمامي وتنظر إلى "الأسفل"، في الحين الذي يجب أن تفخر بطولها، فالطول ثلثا الجمال، وهذا يعني بعد العودة إلى علوم الحساب والفلك والنسبية أن جمالها كان أربعة اثلاث! كانت طويلة إلى الحد الذي إذا سقط فيه قرطها فإنه سيستغرق سبعين ربيعا ليعزف لحن الوصول بالسلامة. كانت تجلس وهي تبتسم فأقول في سري: ابتسامتها تشعث شعر الزمن، فتشرق الشمس في غير وقتها، وتضلّ الكواكب مساراتها، وتخرّ النجوم فجأة من السماء ثم تجتمع ثانية حول القمر، إذا رنّ جرس الصف، معتذرات عن الخلل الفني الطارئ. تتركنا أمها وحدنا، بلا شيطان لأني كنت قد ربطت شيطاني بقيود وأغلال فولاذية، إذ كنت قد نويت مثل بقية أبناء جيلي الهرب إلى أوروبا في اقرب فرصة، ولن اسمح لشيطاني باستراق السمع إلى السماء إلا مرة واحدة، في ليلة الوداع، حتى أصير لائقا بوصفي كشاب له نصف دين لا يكفي للدخول إلى الجنة!
لم تنجح باكيزا لأنها كانت تلهو، كما لم أنجح أنا أيضا، لأني كنت قد دخلت الكلية غير المناسبة لكن رفعت نجح في قتل كلبي، ولا أعرف السبب فيبدو أن شهوة القتل استبدت به، سخطا على العدو الذي كان ممنوعا عليه مواجهته وهو ينتهك سماء بلده، وقد مات الكلب بين ذراعي. سمعت في اليوم التالي صوت طلقة قريبة، زحف إلي بعدها كلب المدرسة، لينزف ويشكو إلي بعبرة لكن من غير تحمحم ويذرف روحه تاركا عظاما كثيرة، حملتها ستين فرسخا من محلات قصابي مدينة الصهباء؟
قيام… لكن كلبي لم يقم
جلوس. .فلم يجلس كلبي لأنه مات
أما مراسيم الدفن فكانت تحت عباءة الليل حتى لا أصبح نادرة يتندر بها أهل القرية، فالعرف يقتضي أن تترك جثث الحيوانات النافقة اوالمنفوقة تودع الشمس حتى آخر قطعة عظم. وارض القرية كانت قاسية وصلبة.
مسحت على رأسه قبل أن يلفظ الأنفاس الأخيرة، لأني كنت ضنينا بالحنان المباشر، فكل لمسة كانت تكلفني سبع غسلات مائية، سابعتها بالتراب.
خفّ شوقي وحبي للقرية "الفرنسية"ولم يعد مثل سابقات الأيام. وخشيت على ديني من الكمال، وعلى نفسي من السماء التي ملأت حرسا وشهبا، فانتقلت إلى قرية أخرى، بخطأ مطبعي، من وزارة التربية. الكلب الثاني، كلب ماتي
برعاية كلبه أوصاني زميلي المهندس المدني الايرلندي ماتي، الذي بفضله زرت بعض المناطق الأثرية في بلدي، وتعرفت بفضله أيضا على تيريزا الكلاب ( لا اعتقد أن الأم تيريزا تمانع في هذه المشابهة) وهي كلبة وديعة في فندق معلولا الذي برتبة خمسة نجوم، كلبة أودع من قطة، كانت تبشم من الوجبات المفتوحة، لعلها لم تعرف إحساس الجوع؟ أما كيف صارت مقدسة؟ فالجواب: من كثرة تمسيد السائحات الأوربيات الحسناوات على ظهرها، براحاتهن الحريرية. يتمنى المرء وهو يرى الدلال الذي يرغد فيه لو كان كلبا. وقد حملني ماتي الأمانة لما رأى مني اهتماما بكلبه- الذي هو من كلابنا "الوطنية" التي يجب أن تكون مكفولة من أهلها، وسافر على إثر برقية عاجلة، ليودع والده الراقد في البيمارستان الايرلندي، الوداع الأخير، وسيعود ليكمل عمله، في مشروع منشأة تحويل الفصول ( وهو اسم ابتدعته لآلة تحول الصيف والشتاء إلى ربيع في قصتي "يابانيون وأتراك"). كان الكلب قد حظي برعاية لم يحظ بها كلب "وطني" في المنطقة (لابد أنه ثمة كلاب تلاقي رعاية جيدة في بيوت الأمراء الذين يحملون ألقابا متواضعة: رفاق)، ماتي كان يعاني من الوحدة، أو لا يعاني منها ، فحب الكلاب "غريزة أساسية" أوروبية. أول فعل فعله ماتي للكلب الذي همى إليه، هو انه طهّر أذنيه من حشرات القراد ( قال لي: يمكن أن تحكم على نظافة الكلب من أذنيه) ثم أخضع الكلب لحمام مفاجئ حافل بالفقاقيع والرغوة والعطر، وغريب على "معارفه" الحيوانية، ورباه كل شبر بنذر، يأكل البيتزا، والهوت دوغ ، والشاورما وليس مثلنا: وجبة واحدة: زيت وزعتر. فتأورب الكلب على يديه، وصار "جنتل كلب" يموء ويبغم ويهدل ويشدو! وقد فوجئنا بعشرات النماذج الوطنية الإنسانية من أصدقاء ومعارف ومسؤولين تلقوا تعليمهم في أرقى المعاهد الأوروبية، ثم عادوا ليتحولوا إلى كاليغولات ونيرونات في مراكزهم وعروشهم!
أصبح الكلب المعزول في "كامب" الخبراء الأجانب العاجي، يقفز في حضن الضيوف مرحبا، ولم يفهم الحارس العربي المسلح الأبي الزائر، الذي لا يقبل الضيم لغة هذا الكلب الذي يتكلم الايرلندية، فأطلق عليه رصاصة الدفاع عن النفس فأرداه، تغدى بالكلب قبل أن يتعشى به الكلب!
عاد ماتي
بكى ماتي
حزن ماتي
ذرف أحزانا مالحة، صامتة، ووضع إشارة سواد على ياقته، ولو كان له جيش لسبق بوش في حملته الصليبية على بلادنا "المعطاء"؟
صرخ ماتي: أريد أن أفهم كيف ينظر دينكم إلى الكلاب؟
ديننا؟ ما دخل ديننا بالأمر، لمَ لا يقول أعرافكم؟، لمَ لا يقول حزبكم؟ لمَ لا يقول عروبتكم؟
تبرع احد المجاهدين إلى القول والفتيا: ديننا يعتبره نجسا، والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، وأضاف يحاول هداية ماتي
إلى الإسلام : ولا تدخل بيتا فيه صورة.
إنها ملائكة من قوم الملا عمر، جنسيتها أفغانية!!
لكن بيوت المسلمين كانت مليئة بالعفاريت الصغار، السنّة الوحيدة التي كنا نتبعها ملبين مثابين هي: تكاثروا فإني مباه بكم الأمم!
الأرجح أننا نتكاثر لعدة أسباب:
السبب الأول: لأن التكاثر "غريزة أساسية" إذا هبت وعصفت بنا، فإنها لا تترك وقتا لتركيب الواقي الذكري الذي يعطل مسيرة اللذة، ويقلل الأمجاد، ويفرح إسرائيل المذعورة من قنبلتنا السكانية، تصوروا: يمكن أن نجاهد ألذّ أنواع الجهاد: الجهاد في سوح الأوطار؟
السبب الثاني: بسبب كثرة الفراغ وقلة العمل، ورغبتنا في حرق المراحل؟؟
السبب الثالث: حتى نليق بوصف "شعب منتج" ما دامت معاملنا غير منتجة.
السبب الرابع: حتى نحصل على تعويض الولادة البالغ نصف دولار!
السبب الخامس: بسبب غلاء العوازل الذكرية، فعوازل المشافي الوطنية المجانية تباع خارجها، لزيادة الدخل الفردي المنكوب بالدخل المحدود، والوطن بالنسل اللامحدود.
السبب السادس: حتى نعوض عجزنا عن صنع القنبلة النووية، واستطيع أن أؤكد أننا سنحرر القدس "بالرياضة الليلية"، فالمثل يقول: الكثرة تغلب الشجاعة!!
تجادلت مع الأخ "المجاهد" ، "الملاك" المبغض للكلاب، وذكرته بالحديث الشريف في الرجل الذي دخل الجنة في كلب سقاه، فقال الملاك: أنّ الكلب الذي سقاه الرجل في الحديث الشريف كلب "جعاري"، والشرط أن يكون كلبا سائبا؟ وليس كلبا أهليا "بيتوتيا"وتأوّل المجاهد قائلا أن الرجل سقاه ثم طرده، فتلوت عليه آية من سورة الكهف: وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد. تصور أن الله تعالى يفرد وصفا بهذه الروعة لكلب الفتية الذين آمنوا بربهم وزدناهم هدى، فقال: هؤلاء قوم بطلت شريعتهم.
بطلت شريعتهم يا ادلعادي. طيب لماذا نسير على سنة الختان وتحريم لحم الخنزير وأكل لحوم "الغوييم" الوطنيين؟
دفن ماتي جثة الكلب التي كانت مطروحة، حسب الأعراف العربية، وواراها الثرى، وانتقم انتقاما رهيبا،
ففي نهاية المشروع قام بحرق كل الأجهزة والوثائق الهندسية، التي كان سيتركها لنا لنستفيد منها، عن طيب خاطر، وجلس يتفرج عليها كما فعل نيرون مع روما ورحل.
وقد صدقت نبوءته فآلة تحويل الفصول فشلت في تحويل الفصول، وما يزال الشتاء مستمرا في بلدنا، والربيع لم يستمر سوى أشهرا قليلة قتل بعدها برصاص حراس الشتاء الميامين. وتحولت الآلة إلى جهاز لصنع الورد البلاستيكي، وعجلات السيارات.
كان المشروع ضخما، شارك فيه يابانيون كمؤسسين وايرلنديون كمشاورين، وحكام على مراحل التنفيذ، وعدة آلاف من العمال الفلبينيين المهرة، وعدة آلاف من العمال المحليين الخبيرين في شرب المتة (تقابل القات اليمني)، وكانت للفلبينيين علاقة خاصة مختلفة بالكلاب، لا تخلو من "حب قاتل". الفلبينيون اكتشفوا بعد شهر أنهم قد غدر بهم، فالأماكن ضيقة جدا، والمتعهد السعودي الذي وقع عقود العمل نهب ثلثي أجورهم، وترك لهم الفتات، فأضربوا عن العمل شهرا، واستدعي السفير الفلبيني، ليهدئ الخواطر، ورحل بعضهم وبقي آخرون يعملون أربع عشرة ساعة يوميا، ويعودون إلى مخيماتهم الاسمنيتة، ليحضنوا جراء صغيرة، ويتبولوا على جدران صناديق إقامتهم، بعد سهرة من سحائب البيرة التي تمطر بركا و سواقي من البول الأصفر، الذي لا يكاد يجف، إذا ما يبس، فإنه يترك أختاما من الخرائط، تسوح في فيافيها قبائل من الذباب السعيد.
لكن دلال الجراء التي كانت تنام في الأحضان كان ينتهي بمآسي، فقد سمعت في إحدى الليالي التي كنت فيها أحاول التدرب على استنبات الزهر من صخر الجليد، أصوات استغاثة وعواء جراء، فآنست نارا فقلت لعلي آتي منها بقبس، واتجهت إليها لأجد مجموعة من الفلبينيين الذين حيوني بنطق اسم عاصمتي بالانكليزية على مرحلتين، مشددين على المقطع الثاني في إيحاءات جنسية؟ وتابعوا قتل الجراء بالمطارق ثم سلخوها ومددوها على برامات حديدية وحوامل معدنية صنعوها للشي، الفلبينيون كانوا بارعين في صناعة الأمتعة (صناديق، أدراج، رفوف، مكتبات، طربيزات..)
وقد سألت احدهم: تأكلون الكلاب! صحتين، لكن لماذا تطعمونها الفراريج قبل الذبح؟
قالوا: إنها عملية حشي مسبقة.
كانوا يحشون أمعاء الكلب بلحم الدجاج!
في اليابان، التي أوفدت إليها للاستئناس بتجربة اليابانيين في تحويل الشتاء إلى ربيع، أخذت صورة تذكارية بجانب كلب اسمه "شي يو كين هاشيكو" وهو كائن ضرب به المثل في الوفاء، قصته باختصار: مات صاحب الكلب فشيعه كلبه، وجلس على القبر لا يبرحه إلا للغداء ثم يعود ليونس روح صاحبه إلى أن مات على القبر. كما وقفت أمام سبطانة الكاميرا لصورة تذكارية أخرى بجانب كلب من حجر، لم يشك ابني في أنه حقيقي، ووضع الصورة فوق سريره ليتباهى أمام أترابه بأبيه الذي يسيطر على الوحوش ويصيد "الأسود" كما كان الزير سالم يفعل؟
وعندما عدت إلى الوطن المعطاء، صار لي كلب، أحضر له سيقان الدجاج من المدينة البعيدة، وأدّخر له مخلفات الفراريج، وكان "بيوض" وهو الاسم الذي أطلقه عليه أولاد العاملين في منشأة تحويل الفصول المعطلة، يعبر عن حبه لي بالارتماء تحت قدمي إذا ما رآني مقبلا، كجلمود صخر حطه السيل من عل، وقد تعثرت به أكثر مرة في الظلام، ودست عليه، فيئن من الألم المكتوم ويسكت. كان الكلب يحتاج إلى علاج نفسي، وقد أنجبت الكلبة ( تبين انه أنثى) ثمانية جراء حاولت رعايتها ثم ارتفعت بي وشايات تتهمني "بالفساد في الأرض"، وإقلاق راحة السكان المحبين لحديث واحد من الأحاديث الشريفة، وفي الليل والنهار فقط. وارتفعت إلى إدارة منشأة الفصول شكوى بضرورة التخلص من الكلاب، التي تزعج القاطنين، (ومني إن لزم الأمر) ولم يطل بهم الأمر سوى عدة أيام فقد نزل أحد المجاهدين وقتل الجراء بالمطرقة، واحدا واحدا، وترك الأم ثكلى.
نست الأم حزنها بعد أيام ثلاثة، وعادت إليّ، تجرجر أحزانها، وأصبحت أكثر من أكل الفروج حتى أخلف لها العظام فزاد وزني بسببها، لكن بيوض نفسها قتلت بطريقة بشعة فقاتل الجراء رمى لها بقطعة لحم ملغمة بلغم لا ينفجر :حشاها بالدبابيس، فأكلتها، فغصت، فجعلت تتلوى من الألم إلى أن قضت، وبقيت ميتة على الطريق العام إلى أن دهنتها عجلات السيارات بالأرض دهنا!!
لم يشترط جان جاك روسو في نظرية العقد الاجتماعي أو ابن خلدون في طبائع العمران، شرط الرفق بالحيوان في بناء الحضارة، أقصى ما يمح إليه رعايا "هنا الآن" هو قليلا من "أوطان" الرفق في "مزرعة الحيوان" حكاية ابن آوى
بعد أن قتل الجنائني سينو، ناطور كروم الخال، ثعبانا غليظا، سحق رأسه ودفنه، ثم وضع حجرة على مدفنه وقال: تعال
غدا لترى ما يحصل؟
وماذا سيحصل؟
قال : أصبر إلى الغد فذلك من عزم الأمور
في الغد: أفقت باكرا لاستكشف معجزة تحول الثعبان إلى حبل، أو إلى سنّور، وأخذت زكيبة من "ألغاز المغامرين الخمسة"، وقصدت الكرم وأنا انوي الاستلقاء في عريشتي فوق شجرة الجوز الوحيدة العملاقة، فيما بعد ستقع حوافر جياد خيال إيتالو كالفينو على بغال خيالي، فيكتب رواية بعنوان البارون المعلق، بطلها هو احمد عمر، لكن بلقب البارون، شكرا كاليفنو.
وصلت إلى مدفن الثعبان، كان التراب منبوشا، والثعبان قد خرج وزحف مسافة عشرة خطوات بشرية!!
تلك كانت المفاجأة، يا لعبقرية لغة العرب الذين سموا هذا الكائن بالحية! إنها حية لا تزال!
كان الثعبان لا يزال يتلوى ويحاول الشكوى وربما البحث عن صيد، ثم مللت، وقصدت عريشتي، مغيّرا دربي إلى البستان، الذي كان يزرع فيه سينو الخضروات، وانأ انوي الفطور المعتاد: خبز وبندورة وجبن، فانبثق لي كليب فجأة وكاد أن يهجم علي!!
لم يكن هجوما؟
إنما محاولة هجوم مع وقف التنفيذ؟
ولم يكن كلبا، كان حائرا بين شكل الثعلب وشكل الذئب؟
تقهقرت إلى الوراء وأنا ابحث عن حجر أو عصا أو شجرة قريبة أتسلقها طلبا للوقاية، لكن الكلب سجد على الأرض و بدأ يتوسل بصوت بين المواء والعواء؟
ثم نهض وعاد إلى الوراء وعيناه الراجيتان تتوسلان؟
وكرر شعائره الغريبة، يقترب، ثم يسجد على الأرض ثم يعود إلى الوراء وهو يتلفت ويفحص بقدمه الأرض؟
كنت احتاج إلى مترجم! حقا أوتي النبي سليمان ملكا لم يؤته أحد من قبل، فهم لغة الكائنات.
رميت الحصى التي في يدي فقالت لي الحصى: اتبعه، فاقتربت منه فجرى أمامي، ثم توقف يطالبني بالاستمرار في اللحاق به، ماذا يريد مني؟ تبعته، فوصلت إلى ساقية ضلّت طريقها إلى وجره، كانت الساقية التي فتحها سينو قد حطمت جدران ضفافها وتسربت إلى وجره، فطافت جراؤه على الماء غرقى ميتة.
كنت قد وصلت متأخرا، فأخرجت الجثث للأم الثاكل.
أيتها الأقدار الصماء خذي استراحة من تدبير المكائد للمصائر؟
أيتها الغيوم البيضاء الذاهلة في السماء، أنظري إلى بناتك المياه، وجرائمها؟
أيتها الكروم، لتتحول عصائر أعنابك إلى خمور تسكر الأقدار.
أيتها الأشجار انفضي عنك الورق، وازدادي ملوحة أيتها البحار، أما أنت أيتها الرياح فاقلعي تلك الجبال من مكانها، وارحلي بها بعيدا، فأنت مطرودة من مملكتي.
كلاب مستعمرة "الربيع الدائم"
كانت الآلة العجيبة تعاني من مشكلة كبيرة، وهي أنها آلة رأسمالية ستدار من قبل عقول "اشتراكية"، فتوقفت وتعطلت في الأسبوع الأول، لكن الحياة الرخية استمرت، فالخبز كان متوفرا، لكنه كان رديء التخبيز، فيرمى في الحاويات، فيمر متطوعون لجمعها وبيعها لرعاة الماشية التي سعدت أغنامهم بها وعاشت أزهى عهودها، عهد الاشتراكية. وصار صوفها ناعما ولحمها طريا، وعظامها هشة. الخبز كانت تأكله الكلاب أيضا، التي تكاثرت بسرعة، فكثرت الشكاوى إلى إدارة الكولوخوز، فأرسلت إدارته برقية إلى مخفر الشرطة المجاور مطالبة إرسال شرطي مع عتاده لقتل الكلاب، وفعلا حدد يوم لحضور الشرطي فكلفت إدارة الكولوخوز العربي لجنة لمرافقته، مؤلفة من حزبي ونقابي ومرافق من السكان لدله على الكلاب.
نبهني ابني الصغير الذي اقتحم باب الدار راكضا: بابا، الحق إنهم يقتلون كلبك الجديد.
كنت قد تبنيت كلبا آخر، خلفا لبيوض. أحك له خاتم الصوت فيحضر مثل عفريت المصباح، هرعت إلى الشرفة، بقلب متبول، كانت فرقة الإعدام المكونة من الشرطي والنقابي والحزبي وجارنا ابو ياسر، قد بدأت بمطاردة جرو صغير! الجرو لم يفهم سبب هذه "الاحتفالية"، فكان ينظر إليهم وهم يسددون إليه السبطانة مستغربا، أطلق الشرطي الأحول الطلقة الأولى فطاشت، فغضب منه النقابي غضبا شديدا:
أريد أن افهم كيف صرت شرطيا؟ "تقوسه" وهو على الزفت، الم ترَ كيف ارتدت علينا الرصاصة، تريد أن تقتلنا أم تقتل الكلب؟
اعتقد أن الشرطي كان يريد أن ينهي القضية وديا، يعني يأخذ رشوة من الفريقين ويا دار ما دخلك شر، لكن المشكلة أنّ الفريق الأول كان حكوميا وان الثاني كان مفلسا لا درهم له ولا دينار سوى نباحه.
حاصر الأربعة الكلب يريدون إبعاده عن الطريق المعبّد إلى التراب ليسهل قتله بلا "نيران صديقة"، الكلب المدرب على الوفاء والمفطور عليه فهم أن في الأمر مكروها فبدأ بالهرب، فتناول النقابي البندقية من الشرطي الأحول وقرفص وعلى ركبة ونصف الأخرى أطلق طلقة خرق بها لحم الهواء وجعله يصفر من الألم، فأصاب الكلب وجعله يرقص رقصة الموت، و يحتضر، فجاء الحزبي بصخرة حطم بها رأسه ورفع إشارة النصر.
حكاية كلب زميلي البخيل المهندس حسن يوس كان زميلي المتخرج من الاتحاد السوفياتي حسن دائم الشكوى من بيروقراطيتنا وبرودنا في تسيير الأعمال، ويقول دائما: والله كان عندي كلب أعقل من هؤلاء كلهم.
كان يستثني نفسه من نسبة العروبة، فقد تسفيت في خمس سنوات.
وحكى لي حكاية صداقته الحميمية مع كلبه "العاقل".
والله يا أبو حميد، مرة بال على السجاد فعملت له بهدلة من تحت الدست فنكس رأسه، ولم يعد إليها، فإذا ما حصره البول، لمسني من صدري بيده اليمنى، لأفتح له الباب، فيغادر فيتبول في الشارع ثم يعود، لكن مكروها وقع، فقد سافرت للاصطياف على البحر الأسود وتركته محبوسا في الدار، عندما عدت بعد أسبوع وجدته هزيلا ولاهثا وقد أكل فردة " شحاطتي" و قطعة من السجاد من الجوع فطار عقلي وضربته بالفردة الثانية وقلت : لا محل لك في البيت أيها الغدار، وان لم تخرج استدعيت لك" الكي بي جي " واتهمتك بالمتاجرة بالعملة الصعبة. وفعلا وضعت قدمي في ظهره ودفعته خارج الباب، فلم يفهم وظل ينظر إليّ مدهوشا: وكأنه يقول لي حتى أنت يا بروتوس، وعندما طال وقوفه أمام الباب، دفعته من أعلى الدرج فذهب إلى الشارع ومكث طويلا وهو ينظر إلى نافذتي ثم ظفرت به شابة شقراء فتبنته وغنمته وأخذته معها.
حكاية غير أخيرة
صديقي فلك يزعم انه فنان تشكيلي لكنه ملوّن جيد، ولم أكن لأعتقد انه فنان لولا صمته الدائم وسيكارته التي لا تفارق فمه، وقد لاحظت أن كثيرين من الفنانين "يؤثثون" حضورهم الفني بسلوك غريب أوبمواهبهم الشفهية أو مالهم أكثر مما يؤسسونه بموهبتهم، وربما كانت زميلته سوز الظبياء التي لا ترسم سوى لوحات الطبيعة الصامتة واحدة من "مواهبه" أو محفزاتها. سألتني سوز التي كنت انصب لها الفخاخ في صوف الغيم، عن لوحتها، فاقتربتُ من وردة عباد الشمس المائلة تحت ثقل الحب وقلت: النحل يرقص حولها يا مولاتي، لكن سوز لم تكن تحب سوى كلمات الألوان وتورياتها التي يجيدها فلك وحده.
أمرني فلك وهو يشير إلى التلفزيون: رجاء اقلب القناة.
فخفضت الصوت لأتابع سماع الزعيم (العربي، الكردي، السويدي، يمكن للقارئ اختيار الجنسية المناسبة) الذي كان يثبت موهبته أمام شعبه بأنه سياسي بارع، ويجيد سحر الكلام، آلة السياسة الأولى في (صحاري العرب، براري الكردي، بلاد الفرنجة، يمكن للقارئ اختيار المكان المناسب)
صديقي فلك من الذين يفضلون ذهب الصمت على فضة الكلام، وكان مقتنعا بأن كل وعد سياسي (كردي، عربي، سويدي) هو كذب، ولما لم استجب له، اقترب وانتزع الريموت من يدي، وقال:
تتذكر قصتك آلة تحويل الفصول؟
ما الذي ذكرك بها؟
قال: آلة تحويل الكائنات هذا.
وأشار إلى الزعيم.
وتابع: انه مثل السيرينات الإغريقيات، لو استمريت في إسماعنا صوته الفاخر سيحولنا بصوته الساحر وكلماته العصماء ووعوده التجديفية إلى كلاب!!
سدد الريموت إلى فم الزعيم و قلب القناة، كان المشهد الأخير، قبل القلب، للجماهير التي "تحولت" فصارت "تنبح" بشعار الفداء المعروف؟
نشيد الإنشاد المنشود
حبست امرأة نفسها مع كلبها في سنة عسل لكي تدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية!
خرجت أمم من أوطانها إلى أوروبا لكنها غرقت في البحر، لأنها لا تعرف السباحة في البر!
دخلت سويدية السجن بستة أشهر سجن، مع وقف التنفيذ، وغرامة لأنها أطعمت كلبها لحما من أطعمة البشر!
خرجت أمة من التاريخ ولم تعد؟
اني انتظر الرد